الزومبى (الميت الحي كما نراه فى مئات أفلام الرعب الهوليودية) هو جثة متحركة أحيتها أعمال السحرة. فوفقاً لمعتقدات الفودو في غرب إفريقيا فإن الشخص الميت يمكن إبقاؤه حياً عن طريق بوكو (ساحر)، ويصبح تحت سيطرة البوكو لدرجة أنه لا تصبح له إرادة مستقلة.
●●●
ماتت تاتشر لكن المشروع السياسي الاجتماعي الاقتصادي الذي يحمل اسمها بفعل قيادتها الأسطورية الدموية لفرضه في بريطانيا، مازال معنا كالميت الحي. وفي مصر، تزاوجت ذروة التاتشرية مع مشروع توريث الحكم من حسني مبارك لابنه فغيرت العشر سنوات الأخيرة من حكمه طبيعة التحالف الحاكم ونمط المصالح الذي يمثله الحكم لصالح نخبة جديدة من رجال الأعمال والحزب زاحمت قاعدة التأييد السياسية في البيروقراطية والجيش، التي طالما استند عليها الأب.
عادة ما تعرف التاتشرية بأنها التدشين الأول للسياسات الليبرالية الجديدة، كما تسمى أحياناً أخرى الريجانية وأحياناً ثالثة بسياسات إجماع واشنطن. لكن كل هذا يعني شيئاً واحداً: «حقيبة الطوارئ المحملة بأفكار مؤسسة على الفهم الأصولي للأسواق على أنها تصحح نفسها بنفسها، وتخصص موارد المجتمع بكفاءة وتخدم الصالح العام بأفضل طريقة». (بحسب وصف الاقتصادي الأمريكي البارز جوزيف ستيجليتز الحائز على نوبل والذي كان نائباً لرئيس البنك الدولي في مقال له فى يوليو 2008 تحت عنوان: «نهاية الليبرالية الجديدة؟»). تشمل هذه السياسات دائما ترويجاً عالمياً للخصخصة وتحرير الأسواق وانسحاباً للدولة من الاقتصاد وتسييداً للانضباط المالي على حساب مستويات المعيشة في انتظار أن يرفع المد الذى يتوجه لقمر مجتمع الأعمال والشركات الكبرى مراكب الفقراء في وقت ما لاحقاً.
وكما كان الأمر في العالم كله. لم يكن هذا التحول مجرد مسألة قرار فني اقتصادي، بل كان مشروعاً سياسياً بامتياز، أعاد توزيع الثروة لحساب الأغنياء، ومد أذرع سيطرة الشركات المحلية والعالمية لمساحات كانت الحركة النقابية والمجتمع المدني والمهمشون قد انتزعوها في عصور دولة الرفاه أو رأسمالية الدولة الراعية التي سبقته. وفي مصر رأينا كيف حوَّل مشروع الاصلاح الاقتصادي في ذروته على يد نظيف الثروة العامة لقلة من الشركات والبنوك والمؤسسات المالية الكبرى والمحتكرين في التجارة والإنتاج لكي تكون قادرة على إنجاز تراكم رأسمالي يمكنها من المنافسة الدولية، ولكن على حساب ملايين المصريين. ورأينا كيف حرك تحالف المصالح الجديد بعد أن رمى مرساه في بحر السيطرة الاقتصادية تغييراً جذرياً في حزب مبارك الحاكم، ثم في حكومته، ثم في مجلس شعبه، مما ولَّد مقاومة اجتماعية وسياسية متصاعدة منذ 2004. ثم أسقطت ذروة هذه المقاومة الشريحة العليا من ممثلي النظام السياسيين في ثورة يناير ومعها مشروع الحكم السياسى الذي كانت تدفع وراءه: توريث الحكم لجمال مبارك. لكنها فقط هزت تركيبات المصالح وتحالف الحكم الذي كان وراءه وبقى كالميت الحي قابعاً يبحث عن ممثلين سياسيين جدد.
فلننفض غبار السياسة عن المصالح
منذ اللحظة الأولى لثورة يناير، كان هناك توافق بلا إتفاق على تجاهل طبيعتها الاجتماعية كثورة على المشروع الاقتصادي الاجتماعي لنظام مبارك. وبينما مر مرسوم يحظر الإضراب العمالي ويحول المضربين للمحاكم العسكرية بدون ضجة كبيرة من قيادات العمل السياسي جرفونا جميعاً لكى تصبح الثورة ومستقبلها متوقفين على هذه المادة أو تلك فى الدستور أو ترتيب العملية الإنتقالية أو شروط الترشح للرئاسة.. إلخ. وعندما تم اكتشاف المأزق الاقتصادي متأخراً جداً بعد أن ضاق الحال أكثر بقاعدة صناع الثورة في الشوارع وأماكن العمل فخرجوا يقطعون الطرق ويحتجون مطالبين بالأجور ومقاومة الفساد والاحتكار (معدل الاحتجاج الاجتماعي فى 2012 قفز لخمس أضعاف متوسطه في سنوات قبل الثورة)، فاجأونا جميعا بالتوافق الغائب: كلهم تاتشريون. (دائما كانت تظهر أزمة الاقتصاد كورقة سياسية للضغط على احتجاجات الشارع وكفى).
فى تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعى تويتر مساء السبت الماضى يقول د. محمد البرادعى ما نصه :» صندوق النقد لا يفرض «شروطاً». ما يطلبه ومعه المستثمرون بل والمصريون أنفسهم سياسات اقتصادية متكاملة وتوافق مجتمعي. الكرة فى ملعب النظام». وفي الأول من الشهر الحالي، اعتبر السيد عمرو موسى، قيادة أخرى في معسكر «المدنيين» أنه من الضروري أن تبدأ الحكومة في وضع خطة تقشف اقتصادي «كحل أمثل لمواجهة الأزمة الاقتصادية» وأن ذلك سيكون مؤشرا لجدية التعامل مع الأزمة الاقتصادية». ولا يختلف موقف حزب الوفد كثيراً عن ذلك، وهو دعامة ثالثة فى جبهة الإنقاذ المعارضة.
ويقول بيان بعثة صندوق النقد الدولي، التى غادرت مصر الأسبوع الماضي بعد أن التقت قيادات المعارضة «المدنية» ما نصه: «ولقد تشجعت البعثة بالمواقف والآراء البناءة المقدمة من ممثلي الأحزاب السياسية بخصوص الإصلاحات الاقتصادية والدعم المرتقب من الصندوق، وأقرت جميع الأطراف بضرورة حماية الفئات الفقيرة والتي قد تتضرر عند تطبيق إجراءات الإصلاح».
أما الإصلاح الذى يتحدث عنه الصندوق وعن التوافق بشأنه (بشرط حماية الفقراء) والذي أوقف اتفاقاً أولياً وقع في ديسمبر لأنه تم التراجع عن بعض إجراءاته، (يقال لنا إن القرض بلا شروط)، فهو نسخة مما كان يسعى يوسف بطرس غالي لعمله على مدى سنواته في الوزارة: تخفيض عجز الموازنة على حساب أي شيء وكل شيء وعلى رأسه الإنفاق العام على الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، سياسات ضريبية توسع قاعدة الدافعين الفقراء وتغفل المضاربين ورجال الأعمال.. الخ. في مسألة الثورة الأولى: العدالة الاجتماعية يظهر لنا اصطفاف جديد يتجاوز الانقسام المدني - الديني: أبناء تاتشر من العلمانيين والإسلاميين فى المعارضة والحكم في مواجهة طموحات ملايين المصريين في نظام عادل وكفء اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
قاعدة مصالح أبناء تاتشر
فى 2005، كنت أعد تقريراً لبى بى سى العربية عن الصعود السياسى لرجال الأعمال في مصر، وتوجهت بالسؤال لرجل الأعمال صلاح دياب الذي كان عضواً قيادياً وقتها فى حزب الوفد عن وجوده فى حزب معارض مقابل من انضموا للحزب الوطني. وكان رده صريحاً بطريقة مدهشة: لابد وأن نوزع أنفسنا على أحزاب مختلفة لكي نضمن المستقبل. ويبدو أن نفس الحال يصدق أيضاً فى تلك الأحزاب والقيادات السياسية التى تبحث عن موطئ قدم فى قاعدة المصالح تلك عوضاً عن تمثيل الأغلبية في مواجهتها. لكن ما هو وضع قاعدة المصالح تلك بعد سنتين من الثورة؟
لا شك أنه كانت هناك ضربة موجعة للمستفيدين من التاتشرية المصرية. بعضهم في السجن، وبعضهم فر خارج مصر وبعضهم هرَّب المليارات أو حول أعماله. ومشروعهم السياسي للسلطة منىزبهزيمة مدوية. لكن الحقيقة تقول إنهم ما زالوا يمسكون بزمام الاقتصاد ومنه إلى السياسة: ما زالوا طرفاً أصيلاً فى حكم البلد يتنافس على وده الطامحون لكراسي السياسة.
نجح هؤلاء على مدى السنتين الماضيتين في إيقاف كل الإجراءات (التي تستحق وصف الإصلاح) التى تعيد بعض التوازن العادل اجتماعياً فيما يتعلق بالأجور وساعات العمل وشروط العمل والضرائب وغيرها. نجح هؤلاء فى صيانة البورصة من أية ضرائب منطقية وإيقاف ضريبة الأرباح الرأسمالية مرة بعد مرة حتى بعد أن تصدر، بينما تصرخ بإجراءات تقشف حكومي. نجح هؤلاء في أن تكون الحقائب الوزارية الاقتصادية في حكومة الرئيس مرسي من الموالين بل إن أحد الوزراء كان موظفاً في شركاتهم ومتهماً بممارسات احتكارية قبل تقلده مقعد الوزارة. نجحت دوائر المصالح التي نمت في عهد جمال مبارك أيضا في الإبقاء على المناصب الأساسية في اتحادات الأعمال وفي البنوك الكبرى تحت أيديهم. بل نجدهم بشخوصهم في اللجان الاقتصادية بأحزاب المعارضة المدنية. كما نجح هؤلاء في إيقاف إجراءات مكافحة الفساد وفرض سياسات تصالح تعفيهم من جرم نهب ثروة الشعب ومخالفة القانون مقابل رد مال قليل للخزانة العامة. نجحوا أيضا في حماية احتكارات الإنتاج والتجارة الخارجية والمحلية. أما الموازنة الجديدة، التي أشرف على إعدادها مسؤولون من اللجنة الاقتصادية لحزب الحرية والعدالة، ففيها نرى تراجعاً للاستثمارات العامة الحقيقية يخفض معدل الاستثمار ل 14% وضرائب على الفقراء قبل الأغنياء، بل نرى فيها عائداً متوقعاً لعمليات خصخصة يصل لنصف مليار جنيه، بعد أن أبلغنا د. محمد جودة المتحدث باسم اللجنة أنه سيتم استئناف الخصخصة لعلاج عجز الموازنة.
بل إنه على الرغم ممن صدعوا أدمغتنا بخسائر البورصة وخسائر الاقتصاد، فإن نظرة على أداء القطاعات الأساسية في التراكم الرأسمالي فى عصر صعود جمال مبارك تخبرنا بأن ماكينة الأرباح تدور براحتها باستثناء بعض الشركات المتورطة في قضايا منظورة أمام القضاء. فلننظر فقط لقطاعات البنوك والاتصالات والحديد والألبان. ويقدر بنك الاستثمار إى اف جى هيرميس في توقعاته لنتائج الشركات المسجلة في البورصة فى الربع الأول من 2013 نموا في الأرباح (مقارنة بالربع السابق) بمتوسط 62.7% بقيادة الشركات الصناعية (58.1% نمو فى الأرباح) والاتصالات (134%). أما النمو مقارنة بالسنة السابقة فالمتوسط هو تراجع 16% لكننا نرى –وفقا لتوقعات هيرميس ــ نموا 22% في أرباح شركات مواد البناء والمقاولات و16.2% فى شركات المواد الغذائية (منها جهينة )، و20% نموا فى أرباح الشركات الاستهلاكية (غبور والنساجون الشرقيون) و9.4% للبنوك.
لهؤلاء يسعى ويعمل أبناء تاتشر فى الإخوان وفى أغلب المعارضة المدنية.
●●●
يعدد جوزيف ستجليتز في مقاله أوجه الفشل العالمى لليبرالية الجديدة وأبناء تاتشر: عدم المساواة والانحياز للأغنياء، فشل في تخصيص كفء الموارد الاقتصادية، لم تحم سياسات السوق العالم من ارتفاعات هائلة في أسعار الطاقة والغذاء بل ربما كانت سبباً فيها أصلاً ثم إيقاع العالم فى أعمق أزماته الاقتصادية منذ الثلاثينيات، رافضاً ما يقول إنه محاولة أنصار أصولية الأسواق لتحميل الحكومات المسؤولية عن الفشل بدلاً من سياساتهم الفاشلة. «كانت أصولية السوق النيوليبرالية دائماً مذهباً سياسياً يخدم مصالح معينة. لم تدعمها أبداً النظرية الاقتصادية، ولا التجربة التاريخية كما يتضح لنا الآن». طوبي لمن يحاربون «بوكو» المصالح لإسقاط «زومبي» تاتشر فى مصر.
[عن جريدة "الشروق" المصرية ويعاد نشرها بالإتفاق مع الكاتب.]